من الإرث إلى المواجهة.. الحركة النسوية المستقلة بتونس تبحث حقوق المرأة والتراجع الديمقراطي
من الإرث إلى المواجهة.. الحركة النسوية المستقلة بتونس تبحث حقوق المرأة والتراجع الديمقراطي
في سياق سياسي يتسم بتراجع المسار الديمقراطي وتضييق متصاعد على الفضاء المدني عادت الحركة النسوية المستقلة في تونس إلى واجهة النقاش من خلال لقاء نظمته الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات خُصص لقراءة تطور هذا المسار النسوي وإرثه التاريخي والتحديات الراهنة التي تواجه الناشطات.
اللقاء الذي انعقد أمس الجمعة، جمع نسويات من أجيال وتجارب مختلفة في محاولة لإعادة التفكير الجماعي في مستقبل الحركة وسط ضغوط سياسية وقضائية غير مسبوقة تشهدها تونس، وفق وكالة “أنباء المرأة”.
وأكدت المشاركات أن السنوات الأخيرة شهدت عودة قوية للحراك النسوي غير المهيكل بوصفه رد فعل مباشراً على الضغوط المتزايدة التي تعرضت لها المنظمات والجمعيات النسوية، فقد واجهت هذه المنظمات قرارات تعليق أنشطة وملاحقات قانونية وإيقافات طالت عدداً من الناشطات ما دفع العديد من النسويات إلى البحث عن أشكال بديلة للتنظيم والتعبئة خارج الأطر التقليدية.
فضاء مقاومة نقدية
ناقش اللقاء السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الحركة النسوية المستقلة في تونس وهو سياق اتسم بتقييد الحريات وتوظيف الدولة لخطاب حقوق النساء بما يخدم سياساتها، واعتبرت المشاركات أن الحركة النسوية نشأت بوصفها فضاء مقاومة نقدية في مواجهة ما يعرف بنسوية الدولة؛ حيث طورت أشكالاً تنظيمية متجذرة في الواقع الاجتماعي التونسي ومرتكزة على مبادئ مؤسسة من أبرزها الدفاع عن مقاربة علمانية لحقوق النساء والتمسك بالممارسات النضالية المستقلة.
ورأت المشاركات أن النسويات المستقلات حملن تصوراً لحقوق النساء قائماً على كونية حقوق الإنسان والمساواة في المواطنة وحرية الضمير، وجاء هذا التصور في سياق كان فيه الخطاب الديني يُستخدم في كثير من الأحيان لتبرير اللامساواة وتقييد الحريات الفردية، وفي هذا الإطار انخرطت النسويات بوصفها قوة مناهضة للمعايير الأبوية ومدافعة عن استقلالية النساء في مواجهة محاولات السيطرة على أجسادهن وخياراتهن الشخصية.
تناول اللقاء مرحلة ما بعد ثورة 2011 التي مثلت لحظة فارقة في التاريخ السياسي والاجتماعي بتونس، فقد أفرزت هذه المرحلة ظهور أصوات نسوية جديدة وتشكيل مجموعات مستقلة وابتكار أساليب تعبير وتنظيم غير مسبوقة، وفي الوقت ذاته كشفت هذه التحولات عن إعادة تشكل المشهد النسوي وظهور اختلافات داخلية حول الأولويات والأدوات والاستراتيجيات.
ضغوط جديدة وتحديات
في ظل السياق السياسي الراهن الذي يتسم بتراجع الديمقراطية وتضييق الفضاء المدني تتعرض الناشطات النسويات بشكل خاص لضغوط سياسية وقضائية تشمل الاستدعاءات والملاحقات والاعتقالات، وأمام هذه الهجمات شددت المشاركات على أن أهمية نقل الإرث النسوي وتعزيز التضامن بين الأجيال وإعادة تأكيد المبادئ المؤسسة للحركة أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
سعى اللقاء إلى الإسهام في إرساء تفكير جماعي حول تطور الحركات النسوية المستقلة في تونس وتحولاتها الراهنة، كما ركز على أهمية الحوار بين النسويات التاريخيات والأجيال الجديدة لضمان نقل التجارب وتراكم الخبرات وبناء أدوات مقاومة قادرة على الصمود في وجه الضغوط المتزايدة.
وأكدت رجاء الدهماني رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أن اللقاء جمع بين الجمعية التي تأسست عام 1989 والجمعيات التي ظهرت بعد الثورة في إطار حراك مجتمعي متجدد هدفه تبادل التجارب وتطوير المقاربات، وأوضحت أن الحراك النسوي في تونس ليس معزولاً عن السياق العالمي بل يتقاطع مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها مختلف بلدان العالم.
وأضافت أن تأسيس الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات قام على مقاربة نسوية واضحة ورؤية فلسفية لمشروع مجتمعي متكامل وليس على ردود فعل ظرفية، وشددت على أن النسوية ليست مفهوماً واحداً بل مجموعة من المقاربات التي تتقاطع في دفاعها عن حقوق النساء، وأكدت حرص الجمعية على التفاعل مع التجارب الجديدة ونقل خبرتها النضالية المتراكمة إلى الأجيال الشابة باعتبارها ثمرة مقاومة طويلة مناهضة للرأسمالية والإمبريالية.
حراك الفلاحات نموذج نضالي
من جهتها قدمت منيرة بن صالح -إحدى مؤسسات حراك الفلاحات- تجربة هذا الحراك الذي انطلق بعد الثورة وتوج بإصدار المرسوم عدد 4 المتعلق بنظام الحماية الاجتماعية للعاملات الفلاحات، وأوضحت أن النساء العاملات في القطاع الفلاحي أدركن أن المطالب التقليدية لم تعد كافية فرفعن مطالب حقوقية أساسية مثل النقل الآمن والضمان الاجتماعي والتغطية الصحية.
وأشارت إلى أن الحراك بدأ بشكل عفوي ودون سند مؤسسي لكنه سرعان ما حظي بدعم جمعيات المجتمع المدني والمنظمات النسوية وتوسع من ولاية صفاقس ليشمل مختلف ولايات البلاد، وهذا التوسع أكسبه زخماً كبيراً تُرجم إلى تحركات ومسيرات ضغطت على السلطة ودفعته إلى إصدار المرسوم رغم استمرار العديد من العراقيل في تطبيقه.
وشددت منيرة بن صالح على الدور المحوري الذي لعبته المنظمات والمراكز النسوية في تونس في نقل معاناة المزارعات والكادحات إلى الفضاء العام وخلق ضغط مجتمعي أسهم في انتزاع مكاسب تشريعية، ورغم الإخفاقات والمعوقات التي لا تزال تحول دون التطبيق الكامل للتشريعات أكدت أن التشبيك بين المنظمات النسوية والعمل الجماعي يظل ضرورة استراتيجية للدفاع عن حقوق النساء والتصدي لمحاولات التراجع عن المكتسبات.
وأضافت أن تونس انتقلت من مرحلة وجود جمعية واحدة تدافع عن النساء إلى مشهد نسوي متنوع وهو نتاج مباشر للمقاومة النسوية المتراكمة التي تواصل العمل والنضال رغم كل الصعوبات.
سياق سياسي واجتماعي
تأتي هذه النقاشات في سياق سياسي واجتماعي بالغ التعقيد تشهده تونس منذ سنوات حيث تصاعدت القيود على العمل المدني وتعرضت منظمات وناشطات لملاحقات وضغوط غير مسبوقة، وفي هذا المناخ تواجه الحركة النسوية تحدياً مزدوجاً يتمثل في الدفاع عن المكتسبات التاريخية من جهة وإعادة ابتكار أدوات النضال من جهة أخرى.
ورغم هذا الواقع الصعب تواصل النسويات التونسيات إعادة طرح أسئلة جوهرية حول العدالة والمساواة والحرية مستندات إلى إرث نضالي طويل وإلى إيمان راسخ بأن الدفاع عن حقوق النساء يظل جزءاً لا يتجزأ من معركة أوسع من أجل الكرامة الإنسانية والديمقراطية.











